.
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسـوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله - تعالى - وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس:
على الرغم من أن هذا العصر يوصف بأنه عصر العلم، فإنه عصر الجهل أيضًا، ورغم أنَّ الإعلام بوسائله المختلفة ينقل الأخبار والحقائق، وينشر العلوم والمعارف المتنوعة؛ فإنه أيضًا ينشر الجهالات، ويؤصل للضلالات.
إن الإنسان المعاصر توصل إلى كثير من الحقائق الكونية، واكتشف كثيرًا من أسرار الأرض وعجائبها وكنوزها، وسخر ثرواتها في خدمته ورفاهيته، وطور الصناعات والتجارات والاتصالات، وكلَّ ما يحتاجه في حياته الدنيا؛ لكن أكثر البشر جهلوا الحقائق الشرعية، وأضلوا الطريق إلى الله - تعالى - ونسوا الدار الآخرة.
إن الإعلام بصحفه المقروءة، وشاشاته المعروضة، وإذاعاته المسموعة قد ضخ كثيرًا من العلوم والمعارف في مجالات مختلفة، وبين حقائق كثيرة كانت خافية على الناس؛ لكنه في نفس الوقت وفي كثير من مجالاته قد حجب الحق، وزين الباطل، وأضلّ الناس.
إنه إعلامٌ علّم الناس كثيرًا من أمور دنياهم؛ لكنه أنساهم أخراهم، فصدق في كثير من صنَّاع مادته، والقائمين عليه، والمتلقين عنه: قولُ الله - تعالى -: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الرُّوم: 7].
ومن اطلع على ما يعرض في كثير من الفضائيات من مناظرات سياسية، أو برامج حوارية، أو لقاءاتٍ دورية يجد أنها لا تخرج عن كونها مجادلات ومهاترات، لا يقصد منها إحقاق حق، أو إبطال باطل، أو نفع المشاهد؛ بل المقصود منها إقناع المشاهد برأي أو فكرةٍ ولو كانت خاطئة.
ولم تسلم كثير من البرامج الدينية من هذه الخطيئة المنهجية، فأكثرها برامجُ موجهة، لا تهدف إلى رفع مستوى التديّن في الأمة، وغرس مبادئ الالتزام بتعاليم الإسلام؛ ولكنها تسعى إلى تمييع الإسلام، وتطويعه لضغط الواقع، وحاجات العصر؛ وذلك بإيجاد المخارج، وإحياء الأقوال المهجورة، والفتاوى الشاذة الضعيفة، بقصد تقريب الإسلام من المناهج المادية العلمانية.
ومن اعترض على هذا المنهج الخاطئ حُجب رأيه، وأخفي قوله؛ بل واتهم بالانغلاق والرجعية، وعدم فهم روح الشريعة!! ولم ينسَ الناس بعدُ الحملة الشعواء من مشايخ الضلالة على من قال بمشروعية هدم الأصنام، التي تعبد من دون الله تعالى
[1]. وهل أرسلت الرسل إلا لمحو الشرك، وهدم الأوثان، وإقامة التوحيد؟! ولكن هذا الأصل الذي لا يختلف فيه مسلمان كان محلاًّ للشك والجدال والاختلاف، فلا حول ولا قوة إلا بالله!
وفي مثل هذه الأيام من كل عام تعرض الفضائيات المشاهد البدعية للاحتفال بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم - ومع خطورة ذلك وأثره على جهلة المسلمين المقلدين، فإن كثيرًا من مشايخ الفضائيات لم يكتفوا بذلك؛ بل حاولوا الاستدلال لهذه البدعة النكراء، واخترعوا مسوغاتٍ لفعلها، وأضفَوْا عليها شيئًا من الشرعية، التي تخدع المتلقي الجاهل، وحجبوا الرأي الآخر في القضية، وهاجموا كل من ينكر هذه البدعة.
إنهم أخفوا عن المشاهد أصل هذه البدعة، وتاريخها، وحقيقة مَن أحدثها في الإسلام، والظروف التاريخية التي أحدثت فيها، وما هو قصد مَن أحدثها مِن هذا الابتداع!!
كل ذلك وغيره في حقيقة هذه البدعة، قد أخفي عن المشاهد ولم يُعرض ولو من باب عرض الرأي الآخر كما يقولون!! وأعظمُ من ذلك أنهم أوهموا المتابعين لبرامجهم أن لهذه البدعة أصلاً في الشريعة، وإجماعًا من الأمة، وقبولاً من علماء المسلمين. وهذا أقبح ما يكون غشًّا وخداعًا وتضليلاً، وعدم احترام لعقول أولئك المشاهدين، فأيُّ مصداقية يزعمونها، وأي موضوعية يتشدقون بها؟!
إن أمة الإسلام مضت قرونها الثلاثة الأولى لم تعرف هذه البدعة، ولا احتُفل فيها بها، وهي القرون التي زكاها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبر أن الخلاف والبدع تكون بعدها. وهذا من علاماتِ نبوته؛ إذ وقع ذلك كما أخبر به - عليه الصلاة والسلام - ففي القرن الرابع الهجري ظهر بنو عبيد، المتسمَّوْن زورًا بالفاطميين؛ انتسابًا إلى فاطمة بنت محمد - عليه الصلاة والسـلام - ورضي الله عنها وأرضاها.
ومن ثم خرجوا على الخلافة العباسية، وأقاموا الدولة الفاطمية في مصر والشام. ولم يرتضِ المسلمون في مصر والشام سيرتهم في الحكم، وطريقتهم في إدارة شؤون الناس؛ فخاف بنو عبيد من ثورة الناس عليهم، فحاولوا استمالة قلوبهم، وكسب عواطفهم بإحداث الاحتفالات البدعية، فاخترع حاكمهم آنذاك المعز لدين الله العبيدي: مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - وموالد لفاطمة وعلي والحسن والحسين ولجماعة من سلالة آل البيت رضي الله عنهم وأرضاهم
[2].
وتتابعت في دولتهم احتفالات أخرى اخترعوها، لم تكن من قبلُ في الإسلام؛ كالاحتفال بالهجرة، ورأس السنة الهجرية، وليلة الإسراء والمعراج، وغيرها كثير.
وظلت هذه الموالد عند بني عبيد في مصر وبعض الشام، إلى أن انتهت دولتهم، وورثها مَن كانوا بعدهم، ولا يعرفها بقية المسلمين في شتى البقاع؛ بل أنكروها ولم يقبلوها تكملة القرن الرابع، وطيلة القرن الخامس والسادس؛ إذ انتقلت عدوى هذه الاحتفالات في أوائل القرن السابع من مصر إلى أهل إربل في العراق، نقلها شيخ صوفي يدعى الملا عمر، وأقنع بها ملك إربل في العراق أبا سعيد كوكبري
[3] ثم انتشرت بعد ذلك في سائر بلدان المسلمين، بسبب الجهل والتقليد الأعمى، حتى وصلت إلى ما تشاهدونه في العصر الحاضر.
إذًا كان الهدف الرئيس من إحداث الموالد هدفًا سياسيًّا لتثبيت حكم بني عبيد، ولم يكن لمحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا لمحبة آل بيته فيه أي نصيب.
وهذا الحكم يتبين بمعرفة حقيقة دولة بني عبيد، والاطلاع على شيء من سيرة المعز العبيدي الذي أحدث هذه الموالد.
فأما بنو عبيد فهم من ذرية عبدالله بن ميمون القداح المعروفِ بالكفر والنفاق والضلال، والمشهور بعداوته لأهل الإيمان، ومعاونته لأهل الكفر والعدوان
[4]، ومن ذريته كان حكامُ بني عبيد، الذين ظهروا في مصر في القرن الرابع الهجري وما بعده.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية فيهم: "وهؤلاء القوم تشهد عليهم الأمة وأئمتها أنهم كانوا ملحدين زنادقة، يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، وجمهور الأمة تطعن في نسبهم، ويذكرون أنهم من أولاد اليهود أو المجوس، وهم يدّعون علم الباطن، الذي مضمونه الكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وعندهم: لا جنة ولا نار ولا بعث ولا نشـور... ويستهينون باسم الله ورسوله، حتى يكتب أحدهم (الله) في أسفلِ نعله - سبحانه وتعالى - عمّا يقول الظالمون علوًا كبيرًا"
[5].
وأما المعز الذي أحدث هذه الموالد فكان له سيرة سيئة؛ إذ قرّب اليهود والنصارى، وأقصى المسلمين، وحرّف الأذان الشرعي فهو أول من دعى بالأذان بحي على خير العمل، ويكفي في بيان حقيقته أن الشاعر ابن هانئ الأندلسي مدحه فقال فيه:
.
مَا شِئْتَ لاَ مَا شَاءَتِ الأَقْدَارُ فَاحْكُمْ فَأَنْتَ الوَاحِدُ الْقَهَّارُ[6] |
.
نعوذ بالله من الكفر والضلال. فهل يشك عاقل في حقيقة هذا الرجل وحقيقة دولته الباطنية؟! وهل يمكن أن يقال: إن دوافع إحداث هذه الموالد كان محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومحبته آل بيته ومن قِبَلِ مَنْ؟! مِن قِبَلِ قومٍ كانوا يظهرون محبة آل البيت ويبطنون العقائد الفاسدة، ويمالئون أهل الكفر على أهل الإسلام، وماذا بعد الحق إلا الضلال؟!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
.
الخطبة الثانية.
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله - تعالى - وأطيعوه، والتزموا سنة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وإياكم والمحدثات؛ فإنها تباعد بين العبد وربه، وتؤدي إلى ترك السنن، وهي من أسباب سوء الخاتمة: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31].
أيها المؤمنون:
لم يكتفِ مشايخ الضلالة بجر الناس إلى هذه البدعة المنكرة؛ بل حاولوا إقناعهم بأن الأمة كانت تحتفل بذلك على مر العصور، وأن هذه الموالد لم تنكرها إلا فئة محدودة من العلماء ينعتونهم: (بالوهابيين) وهذا من أوضح الكذب والافتراء؛ إذ إن علماء كثرًا من مصر والعراق والشام والمغرب وسائر الأمصار أنكروا هذه البدعة، وشنعوا على أهلها. وحَصْرُ المنكرين لهذه البدعة في علماء الجزيرة العربية مقصود؛ لأجل إبطال الحق بإخفاء أنصاره، وإظهار الباطل بتكثير أتباعه.
وأوفى كتاب أُلف في تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي كتبه أحد المتحمسين لهذه البدعة، الناشرين لها، المحتفين بها، ذلكم هو المؤرخ المصري: حسن السندوبي، ومع اهتمامه بتلك البدعة، وتأييده لها؛ فإنه اعترف في كتابه بأنها من المحدثات في الدين! وقال في كتابه: "تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي" ما نصه: "وهنا يجمل بي أن أقول: إن هذه المواسم والأعياد والموالد وما شاكلها وجرى في سبيلها إنما تعد من البدع، التي لم يأذن بها الله، ولا ورد منها ما يشير إلى أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بها، أو أشار إليها، أو باشرها في قول أو فعل - حاشا عيدي الأضحى والفطر - وكذلك لم يعرفها الصحابة على طبقاتهم، ولم يشهدها أحد من التابعين على درجاتهم، ولم ينوه بها أحد من الأئمة المجتهدين، الذين ضبطوا أصول الشريعة، وحرروا فروعها، وبينوا مدلولاتها"
[7]!!
ثم ذكر بعد ذلك أن الواقع فرضها بإحداث الفاطميين لها، وأنه يؤيدها من باب ضغط الواقع ليس إلا!! وهو ما قال هذا الكلام إلا بعد أن بحث ونقب في كتب التاريخ والآثار والفقه؛ لعله يعثر على ما يدل على وجودها في الصدر الأول من الإسلام، فلما لم يعثر على شيء من ذلك بعد طول بحث وتنقيب اعترف بهذه الحقيقة المهمة.
إن هذه الاحتفالات لا تنفع الإسلام شيئًا؛ بل ضررها ظاهر على المسلمين، وأكبر دليل على ذلك دعم الكفار والمنافقين لها بقصد هدم الشريعة، وتغيير معالم الملة، وتشويه صورة الإسلام، وحصره في مظاهر أولئك الدراويش، الذين يتراقصون ويتمايلون في احتفالات المولد، ويوضح حقيقة ذلك ما ذكره المؤرخ الجبرتي في أخبار مصر من أن القائد الفرنسي نابليون - إبان استعماره لمصر - أمر الشيخ البكري بإقامة الاحتفال بالمولد، وأعطاه ثلاثمائة ريال فرنسي لأجل ذلك، وأمره بتعليق الزينات؛ بل إن نابليون حضر المولد بنفسه، واحتفل به مع المسلمين
[8]!!
وكثير من العلمانيين الذين رفضوا الشريعة، وحاربوا الإسلام بأقوالهم وأقلامهم يحضرون تلك الاحتفالات ويشجعونها؛ فلولا أنها من سبل هدم الديانة في قلوب الناس لما فعلوا ذلك، ولما فعله المستعمر النصراني الحاقد نابليون.
وبعد - أيها الإخوة - فإن ما يعرض حيال هذا الموضوع ليكشف حقيقة الحياد والموضوعية، التي تتشدق بها كثير من القنوات الإعلامية، ولن يتضرر الإسلام بذلك؛ لأن الله - تعالى - قد تكفّل بحفظه؛ لكن الجهلة المتلقين عن هذه القنوات هم من سيتضرر بهذا الطرح الخبيث.
ألا فاتقوا الله ربكم، واحفظوا بيوتكم وأولادكم من وسائل الشبهات، والشهوات، وأسباب الضلال والفساد، وصلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم.
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] هذا إشارة إلى ما قامت به حركة طالبان الأفغانية قبل أسابيع من هدم لبعض أصنام البوذيين، وثارت ثائرة العالم بشرقه وغربه بحجة الحفاظ على التراث، وانبرى كثير من مشايخ التنوير للتنديد بذلك، والزعم بأن هدم هذه الأصنام ليس من الإسلام في شيء!! نعوذ بالله من الإفك والهوى، وتجمع وفد هؤلاء المشايخ من بعض الأقطار، وذهبوا في رحلة لمحاولة ثني الأفغان عن هدم تلك الأوثان، وسودت الصحف وقتها بكثير من الضلال، نسأل الله العافية!
[2] انظر: "تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي" لحسن السندوبي (26) ويتوقع أن إحداثهم له كان قريبًا من عام 362هـ.
[3] المطلع على كتب العلماء يجد أن بعضها أرخ لبدعة المولد بالقرن الرابع، وبعضها بالقرن السادس، وتوجيه ذلك: أن أول إحداثها في مصر كان في القرن الرابع، ثم انتقلت في القرن السادس أو أوائل السابع إلى العراق؛ إذ احتفل به الملك أبو سعيد كوكبري. انظر: "الباعث على إنكار البدع والحوادث" لأبي شامة (31) و"مرآة الزمان" لسبط ابن الجوزي (8/013)، و"البداية والنهاية" (21/362).
[4] كان أول خروج العبيديين من المغرب في قبائل تجهل الإسلام، انخدعت بدعوة أبي عبدالله الشيعي، فناصره أهل المغرب؛ حتى استقرّ له الأمر، فكتب إلى رئيسه الباطني ليقدم إليه من الشام، فلما دخل المغرب تسمى بعبيدالله ولقب نفسه بالمهدي - وإليه ينسب العبيديون - ويذكر العلماء أن اسمه: سعيد وهو من ولد ميمون القداح الملحد المجوسي. وفور تمكنه بطش بداعيته والممكن له في المغرب أبي عبدالله الشيعي. قال أبو شامة المقدسي عن عبيدالله: "وعبيد هذا كان اسمه سعيدًا، فلما دخل المغرب تسمى بعبيدالله، وزعم أنه علوي فاطمي، وادعى نسبًا ليس بصحيح، لم يذكره أحد من مصنفي الأنساب العلوية، وترقت به الحال إلى أن ملك وتسمى بالمهدي، وبنى المهدية بالمغرب، ونسبت إليه، وكان زنديقًا خبيثًا عدوًّا للإسلام، متظاهرًا بالتشيع، مستترًا به، حريصًا على إزالة الملة الإسلامية، قتل من الفقهاء والمحدثين والصالحين جماعة كثيرة، وكان قصده إعدامهم من الوجود؛ لتبقى العالم كالبهائم؛ فيتمكن من إفساد عقائدهم وضلالتهم، والله متم نوره ولو كره الكافرون. ونشأت ذريته على ذلك منطوين، يجهرون به إذا أمكنتهم الفرصة وإلا أسروه..." إلخ. انظر: "الروضتين في أخبار الدولتين" لأبي شامة (1/102)، وما بعدها، و"مختصر الروضتين" للدكتور محمد حسن عقيل (651) وما بعدها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ردًّا على من ادعى العصمة فيهم: "فكيف تكون العصمة في ذرية "عبدالله بن ميمون القداح" مع شهرة النفاق والكذب والضلال..." مجموع الفتاوى (53/721)، وعن نسبهم وإظهارهم الإيمان قال - رحمه الله -: "ومن المعلوم الذي لا ريب فيه أن من شهد لهم - لبني عبيد - بالإيمان والتقوى، أو بصحة النسب؛ فقد شهد لهم بما لا يعلم، وقد قال الله - تعالى -: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، وقال - تعالى -: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزُّخرف: 86]. وليس أحد من الناس يعلم صحة نسبهم، ولا ثبوت إيمانهم وتقواهم؛ فإن غاية ما يزعمه أنهم كانوا يظهرون الإسلام والتزام شرائعه، وليس كل من أظهر الإسلام يكون مؤمنًا في الباطن؛ إذ قد عرف في المظهرين للإسلام المؤمن والمنافق قال الله - تعالى -: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللهِ وَبِاليَوْمِ الآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8]، وقال - تعالى -: {إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]، وقال - تعالى -: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]، وهؤلاء القوم يشهد عليهم علماءُ الأمة وأئمتها وجماهيرها أنهم كانوا منافقين زنادقة، يُظهرون الإسلام ويبطنون الكفر. فإذا قدر أن بعض الناس خالفهم في ذلك صار في إيمانهم نِزاع مشهْورٌ، فالشاهد لهم بالإيمان شاهد لهم بما لا يعلمه؛ إذ ليس معه شيء يدل على إيمانهم مثل ما مع منازعيه ما يدل على نفاقهم وزندقتهم، وكذلك "النسب" قد عُلم أن جمهور الأمة تطعن في نسبهم، ويذكرون أنهم من أولاد المجوس أو اليهود. هذا مشهور من شهادة علماء الطوائف: من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وأهل الحديث وأهل الكلام وعلماء النسب والعامة وغيرهم، وهذا أمرٌ قد ذكره عامة المصنفين لأخبار الناس وأيامهم، حتى بعض من قد يتوقف في أمرهِم كابن الأثير الموصلي في تاريخه ونحوه؛ فإنه ذكر ما كتبه علماء المسلمين بخطوطهم في القدح في نسبهم. وأما جمهور المصنفين من المتقدمين والمتأخرين حتى القاضي ابن خلكان في تاريخه فإنهم ذكروا بطلان نسبهم، وكذلك ابن الجوزي وأبو شامة وغيرهما من أهل العلم بذلك؛ حتى صنَّفَ العلماء في كشف أسرارهم، وهتك أستارهم كما صنَّف القاضي أبو بكر الباقلاني كتابه المشهور في كشف أسرارهم وهتك أستارهم، وذكر أنهم من ذرية المجوس، وذكر من مذاهبهم ما بين فيه أن مذاهبهم شر من مذاهب اليهود والنصارى؛ بل ومن مذاهب الغالية الذين يدّعون إلهيّة عليٍّ أو نبوته فهم أكفر من هؤلاء؛ وكذلك ذكر القاضي أبو يعلى في كتابه: "المعتمد" فصلاً طويلاً في شرح زندقتهم وكفرهم، وكذلك ذكر أبو حامد الغزالي في كتابه الذي سماه "فضائل المستظهرية وفضائح الباطنية" قال: ظاهر مذهبهم الرَّفض وباطنه الكُفر المحضُ. وكذلك القاضي عبدالجبَّار بن أحمد وأمثاله من المعتزلة المتشيعة الذين لا يفضِّلون على علي غيره؛ بل يفسقون مَن قاتله ولم يتُبْ مِن قتاله: يجعلون هؤلاء من أكابر المنافقين الزنادقة. فهذه مقالة المعتزلة في حقهم فكيف تكون مقال أهل السنة والجماعة؟!!
والرَّافضة الإمامية - مع أنهم من أجهل الخلق، وأنهم ليس لهم عقلٌ ولا نقلٌ ولا دينٌ صحيحٌ ولا دُنْيا منصورةٌ - نعم يعلمون أنَّ مقالة هؤلاء مقالة الزنادقة المنافقين؛ ويعلمون أن مقالة هؤلاء الباطنية شرٌ من مقالة الغالية، الذين يعتقدون إلهيّة عليٍّ رضي الله عنه. وأمَّا القدح في نسبهم فهو مأثور عن جماهير علماء الأمة من علماء الطَّوائف. وقد تولَّى الخِلافة غيرهم طوائف، وكان في بعضهم من البدعة والظُّلم ما فيه؛ فلم يقدح النَّاس في نسب أحد من أولئك كما قدحوا في نسب هؤلاء، ولا نسبوهم إلى الزَّندقة والنفاق كما نسبوا هؤلاء. وقد قام من ولد علي طوائف: من ولد الحسن وولد الحسين كمُحمد بن عبدالله بن حسن وأخيه إبراهيم بن عبدالله بن حسن وأمثالهما. ولم يطعن أحدٌ لا من أعدائهم ولا من غير أعدائهم لا في نسبهم ولا في إسلامهم، وكذلك الدَّاعي القائم بطبرستان وغيره من العلويين، وكذلك بنو حمود الذين تغلَّبوا بالأندلس مدَّة وأمثالُ هؤلاءِ، لم يقْدح أحدٌ في نسبهم ولا في إسلامهم. وقد قتل جماعة من الطالبيـين على الخِـلافــة لا سيَّما في الدَّولة العبَّاسية، وحُبس طائفة كموسى بن جعفر وغيره ولم يقدح أعداؤهم في نسبهم ولا دينهم. وسبب ذلك أن الأنسابَ المشهـورة أمرُها ظاهرٌ متـداركٌ مـثل الشمـس لا يقدرُ العدوُّ أن يُطفئه؛ وكذلك إسلام الرَّجُل وصِحةُ إيمـانِهِ بالله والرَّسـولِ أمْـرٌ لا يخفى، وصاحب النسب والدِّين لو أراد عدوه أن يبطل نسبه ودينه، وله هذه الشهرة لم يمكنه ذلك؛ فإن هذا مما تتوفّر الهمم والدَّواعي على نقله، ولا يجوز أن تتفق على ذلك أقوالُ العلماء، وهؤلاء "بنو عبيد القداح" ما زالت علماء الأمة المأمونون عِلمًا ودينًا يقدحون في نسبهم ودينهم؛ لا يذُمونهم بالرَّفض والتشيع؛ فإن لهم في هذا شركاء كثيرين؛ بل يجعلونهم "من القرامطة الباطنية" الذين منهم: الإسماعيلية والنصيرية - ومن جنسهم الخرمية المحمرة وأمثالهم من الكفار - المنافقون الذين كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر؛ ولا ريب أن اتباع هؤلاء باطل؛ وقد وصف العلماء أئمة هذا القول بأنهم الذين ابتدعوه ووضعوه؛ وذكروا ما بنوا عليه مذاهبهم؛ وأنهم أخذوا بعض قول المجوس وبعض قول الفلاسفة؛ فوضعوا لهم "السَّابق" و"التالي" و"الأساس" و"الحجج" و"الدعاوى" وأمثال ذلك من المراتب. وترتيب الدعوة سبع درجات؛ آخرها "البلاغ الأكبر؛ والنَّاموس الأعظم" مما ليس هذا موضع تفصيل ذلك.
وإذا كان كذلك فمن شهد لهم بصحة نسب أو إيمان؛ فأقل ما في شهادته أنه شاهد بلا علم، قافٍ ما ليس له به علم؛ وذلك حرام باتفاق الأمة؛ بل ما ظهر عنهم من الزندقة والنفاق، ومعاداة ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - دليلٌ على بطلان نسبهم الفاطمي؛ فإن من يكون من أقارب النبي - صلى الله عليه وسلم - القائمين بالخلافة في أمته لا تكون معاداته لدينه كمعاداة هؤلاء؛ فلم يعرف في بني هاشم ولا ولد أبي طالب ولا بني أمية: من كان خليفة وهو معادٍ لدين الإسلام؛ فضلاً عن أن يكون معاديًا كمعاداة هؤلاء؛ بل أولادُ الملوك الذين لا دين لهم، يكون فيهم نوع حميّة لدين آبائهم وأسلافهم، فمن كان من ولد سيد ولد آدم، الذي بعثه الله بالهدى ودين الحق، كيف يعادي دينه هذه المعاداة؟! ولهذا نجد جميع المأمونين على دين الإسلام باطنًا وظاهرًا معادين لهؤلاء إلا من هو زنديق عدو لله ورسوله، أو جاهل لا يعرف ما بُعث به رسوله، وهذا يدل على كفرهم وكذبهم في نسبهم". (مجموع الفتاوى 53/721 ـ 231).
وقال أيضًا: "فإن القاهرة بقي ولاة أمورها نحو مائتي سنة على غير شريعة الإسلام؛ وكانوا يظهرون أنهم رافضة وهم في الباطن: إسماعيلية ونصيرية وقرامطة باطنية، كما قال فيهم الغزالي - رحمه الله تعالى - في كتابه الذي صنفه في الرد عليهم: "ظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر المحض". واتفق طوائف المسلمين: علماؤهم وملوكهم وعامتهم من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم، على أنهم كانوا خارجين عن شريعة الإسلام، وأن قتالهم كان جائزًا؛ بل نصوا على أن نسبهم كان باطلاً، وأن جدَّهم كان عبيدالله بن ميمون القدَّاح لم يكن من آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصنَّف العلماء في ذلك مصنفات. وشهد بذلك مثل الشيخ أبي الحسن القدوري إمام الحنفية، والشيخ أبي حامد الإسفرائيني إمام الشافعية، ومثل القاضي أبي يعلى إمام الحنبلية، ومثل أبي محمّد بن أبي زيد إمام المالكية. وصنف القاضي أبو بكر بن الطيب فيهم كتابًا في كشف أسرارهم وسمّاه "كشف الأسرار وهتك الأستار" في مذهب القرامطة الباطنية. اهـ (مجموع الفتاوى 82/536 ـ 636) قلت: فقوم هذه سيرتهم وحقيقتهم كيف يظن بهم محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بإحداث هذه الموالد المنكرة في الإسلام؟! ولعل هذا يكشف القصد من وراء هذه المبتدعات من قوم يظهرون الإسلام، ويبطنون الكفر والعياذ بالله تعالى.
[5] "مختصر الفتاوى" للبعلي (884).
[6] انظر البيت في: "حسن المحاضرة" للسيوطي (2/02) وذكر أن ابن هانئ كفّره غير واحد من العلماء لمبالغته في المدح، ومن ذلك قوله هذا البيت في المعز العبيدي.
ولهذا المعز الذي أحدث الموالد في الإسلام سيرة سيئة، وهو صاحب عقيدة فاسدة كما هو حال آبائه وأبنائه، قال أبو شامة المقدسي: "وقام بعده ابنه الملقب بالمعز فبث دعاته فكانوا يقولون: هو المهدي الذي يملك الأرض، وهو الشمس التي تطلع من مغربها!! وكان يسره ما ينزل بالمسلمين من المصائب من أخذ الروم بلادَهم، واحتجب عن الناس أيامًا ثم ظهر وأوهم أن الله رفعه إليه، وأنه كان غائبًا في السماء، وأخبر الناس بأشياء صدرت منهم كان ينقلها إليه جواسيس له؛ فامتلأت قلوب العامة الجهال منه، وهذا أول خَلْف خلفائهم بمصر، وهو الذي تنسب إليه القاهرة المعزية، واستدعى بفقيه الشام أبي بكر بن أحمد بن سهل الرملي - ويعرف بابن النابلسي - فحُمل إليه في قفص خشب فأمر بسلخه، فسلخ حيًّا، وحشا جلده تبنًا وصلب - رحمه الله تعالى - قال أبو ذر الهروي: "سمعت أبا الحسن الدارقطني يذكره ويبكي ويقول: كان يقول وهو يسلخ: {كَانَ ذَلِكَ فِي الكِتَابِ مَسْطُورًا} [الإسراء: 58]" ا هـ "مختصر الروضتين" (159 ـ 160).
وذكر المؤرخون أنه قرب المنجمين وكان يأخذ بأقوالهم. انظر: "تاريخ الإسلام" للذهبي (26/350) و"النجوم الزاهرة" (4/57)، وذكر ابن عذارى المراكشي في "البيان المُغرب" (1/322): أن المعز في سنة 349هـ وجه أئمة المساجد والمؤذنين، يأمرهم ألا يؤذنوا إلا ويقولوا فيه: "حي على خير العمل" قال السيوطي: "ومن غرائبه: أنه استوزر رجلاً نصرانيًّا يقال له: عيسى بن نسطورس، وآخر يهوديًّا اسمه ميشا، فعز بسببهما اليهود والنصارى على المسلمين في ذلك الزمان؛ حتى كتبت إليه امرأة في قصة في حاجة لها تقول: بالذي أعز النصارى بعيسى بن نسطورس، واليهود بميشا، وأذل المسلمين بك؛ لما كشفت عن ظلامتي"!! ا هـ. "حسن المحاضرة" (2/22) وانظر ترجمته في: "المنتظم" (7/28) و"العبر" (2/933) و"مرآة الجنان" (2/383) و"شذرات الذهب" (3/25) و"البداية والنهاية" (11/383) و"الخطط" (1/153).
[7] "تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي من عصر الإسلام إلى عصر فاروق الأول" لحسن السندوبي (22 ـ 32).
[8] "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" (1/102) وفيه: "سأل صاري عسكر عن المولد النبوي ولماذا لم يعملوه كعادتهم؟ فاعتذر الشيخ البكري بتعطيل الأمور، وتوقف الأحوال، فلم يقبل وقال: لابد من ذلك، وأعطى له ثلاثمائة ريال فرنسي معونة، وأمر بتعليق تعاليق وأحبال وقناديل، واجتمع الفرنساوية يوم المولد، ولعبوا ميادينهم، وضربوا جلودهم ودبادبهم بطول النهار والليل بالبركة تحت داره..." إلخ.
.